مقال

قراءة في تقرير حالة المدن السعودية 2019 (4/5) الديناميكية الاقتصادية والحوكمة للحواضر

عبدالإله بن عبدالعزيز آل الشيخ
خبير سياسات التنمية والتطوير

صدر حديثاً، عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat)، بالتعاون مع وزارة الشؤون البلدية والقروية، تقرير “حالة المدن السعودية 2019م”، وهو بحق من أشمل التقارير التي اطلعت عليها في السنوات الأخيرة، والتي تشخص حال المدن والتنمية الحضرية والإقليمية والفجوة ما بين الريف والحضر في المملكة.
وسنحاول من خلال هذه القراءة المتأنية، عبر سلسلة حلقات لا تتجاوز الخمس، فهم حالة المدن السعودية عبر عقود من التنمية المتواصلة والجادة من أبناء هذا الوطن المعطاء.
××××

نتطرق في هذه الحلقة، إلى الفصلين الرابع والخامس من تقرير “حالة المدن السعودية 2019″، وهما معنيان بمجالين يعدان المحركان لنهضة أي أمة وهما الاقتصاد والإدارة.
وكما أن هناك اقتصاداً وطنياً، هناك أيضاً اقتصاد إقليمي ومحلي ينقسم ما بين الريف والحضر. ومن ظواهر هذا العصر أن أصبحت الحواضر والمدن محركات التنمية الاقتصادية وتعتمد عليها الدول في تنميتها الشاملة وناتج اقتصادها الإجمالي. ولو نظرنا إلى العصور القديمة، لوجدنا أن المدن كانت تمثل مراكز لتطور المجتمعات وحاضنة للحضارات والتطور البشري، وبعض هذه الحضارات عرفت بمدنها أو بمدينة واحدة، مثل مدينة بابل والحضارة البابلية والمدن اليونانية القديمة، التي أصبح كل منها دولة لوحدها، إلى أن وصل عددها إلى ألف مدينة. وما جعل هذه المدن تزدهر ويقوى اقتصادها، هو الإدارة أو الحكم، لذا فإن الموضوعين متصلين.
ويشدد التقرير على أن المدن الحيوية تعتبر محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي، وبالتالي ينبغي النظر إلى مستوى التحضر العالي في المملكة على أنه أحد المحركات للنمو الحضري بمختلف جوانبه. وكما هو معلوم، هناك تمايز بين المدن الكبرى والمدن الثانوية وأن الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية التي قامت بها المملكة لتنفيذ استراتيجيتها للتنمية الاقتصادية، استفادت منها المدن الكبيرة الحالية خلال مراحل تطورها، وهو ما تحدث بشأنه التقرير حول تركز التنمية في المحور الغربي الشرقي أي محور الدمام -الرياض -جدة.

مقارنات ومؤشرات

كما يعرض التقرير لمقارنات عدة للإحصاءات والمؤشرات، ويشير إلى ظاهرة مهمة وهي انخفاض المشاركة في قوة العمل الوطنية، حيث وجد في الربع الأخير من عام 2017، أن نسبة السكان ممن هم في سن العمل والإنتاج من إجمالي القوة العاملة في المملكة بلغت 55.6 في المئة، وهي نسبة منخفضة مقارنة بـ 72 في المئة للسكان المنتجين اقتصادياً في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وهذا معيار مختلف عن معيار البطالة المعتاد استخدامه، إلا أن نسبة البطالة في المملكة منخفضة بوجه عام، إذ تقدر بـ 6 في المئة (3.2 في المئة للذكور و21.1 في المئة للإناث) لكن المعدل أعلى نسبياً من ذلك بالنسبة إلى المواطنين السعوديين، فهو 12.8 في المئة.
وهناك جانب آخر يتلاقى فيه الاقتصاد والإدارة، ألا وهو تمويل النمو الحضري، وكونه يعتمد بشكل أساسي على التمويل الحكومي، فان التقرير يحلل النظام الإداري في المملكة بكونه هرمي ومركزي تقليدي، ولكنه آخذ في التطور التدريجي، مع تنامي دور الإدارات المحلية، وفق عملية بطيئة لا تتسق مع التحديات التنموية التي تتطلب تقوية القدرات المحلية التي ما زالت محدودة.
كما يشدد التقرير على أهمية الإدارة الفعالة للتنمية الحضرية، من خلال تفعيل دور البلديات كمخطط ومدير للنمو الحضري، وأن تمويل التنمية الحضرية، لا يزال يمثل تحدياً كبيراً للإدارات المحلية. وبغض النظر عن حجم الأمانة أو البلدية، فإنها تعتمد إلى حد كبير على الدعم المالي من الحكومة المركزية لميزانياتها، حيث يتميز النظام المالي الحالي، بمركزية عالية في المنظومة الإدارية ككل، حيث يتم تمويل معظم البنية التحتية والخدمات البلدية من الحكومة عبر الهيئات والوزارات المختصة.
وهنا يمكنني القول إنه في ظل استمرار هذا النهج لا نجد قيادة محلية تعمل بمسؤولية تجاه تحقيق مستهدفات تنموية مهمة، بل تفضل التركيز على انجاز المشاريع التي يمكن مشاهدتها دون قياس أثرها التنموي بشكل دقيق. وهذه طبيعة البشر والمؤسسات، فعندما لا يتم منحهم المسؤولية مع الصلاحية المناسبة والموارد الكافية وتحفيزهم على تنمية مواردهم الذاتية على الأقل لتغطية التشغيل والصيانة، فنجدهم ينحون هذا المنحى، والمطلوب هو بقاء مساهمة الحكومة المركزية في الاستثمارات الرأسمالية، وأن يتاح للأجهزة المحلية أن تعقد الشراكات المناسبة مع القطاع الخاص والقطاع المالي من خلال نماذج تشاركية (PPP)، ضمن إطار تشريعي يسمح لهذه الأجهزة المحلية السعي في بناء هذه الشركات الحقيقية.

كما يشير التقرير إلى أهمية أن ندرك أن المدن المتوسطة والصغيرة، تلعب دوراً رئيسياً كمراكز ومحاور في منظومة أقطاب النمو الوطنية الحضرية، كجزء من سياسة جذب الصناعة، لذلك من المهم الاستمرار في استراتيجية المدن الصناعية والسماح لهذه المدن المتوسطة والصغيرة أن تعطي المحفزات لجذب الاستثمارات، كل منها بحسب ميزته التنافسية ومن خلال خطط واستراتيجيات تنشأ محلياً، مع استمرار الدعم الحكومي للمناطق والأقاليم الأقل نماءً.

تنويع القاعدة الاقتصادية
ويخلص الفصل الرابع إلى سرد القضايا الأساسية المتعلقة بديناميكية الاقتصاد الحضري في المملكة، مع الإشارة إلى التحديات والفرص، ويعرض التدابير والإجراءات المهمة لتعزيز الاقتصاد الحضري ودعم المطلب الوطني لتنويع القاعدة الاقتصادية ومنها:
– بذل جهود كبيرة لتحسين الكفاءة الداخلية والاقتصادية للمدن الثانوية، أو تحويل فرص التوظيف الحديثة نحو مراكز نمو جديدة.
– تعزيز جاذبية المدن الثانوية للشباب الذين يدخلون سوق العمل، إضافة إلى توفير الوظائف المتناسبة مع طاقات ومهارات الشباب السعودي.
– توافر المساكن بأسعار معقولة وغيرها من المرافق الحضرية في المدن الثانوية سيكون حاسماً في عكس تيارات الهجرة لتصبح هجرة حضر -ريفية.

ويؤكد التقرير أنه ينبغي ألا ينظر إلى الإسكان على أنه مجرد نشاط هامشي، بل قوة مركزية في الاقتصاد السليم، حيث يفتح سوق الإسكان النشط مجالاً رحباً للتنمية الاقتصادية بتحريكه وتحفيزه لعدة قطاعات مهمة وحيوية في الاقتصاد، ومن الضروري ربط الآثار الاقتصادية للاستثمارات في قطاع الإسكان الحضري بالأهداف والغايات الخاصة بالاقتصاد الكلي للمملكة، حيث يضمن هذا الربط لقطاع الإسكان بأنه قطاع إنتاجي مواكب للقرارات الناجمة عن سياسات الاقتصاد الكلي وأنشطة القطاع الخاص في المناطق الحضرية، وهذا مهم للتقليل من النقص في الإسكان الميسر والبنى التحتية لكافة الشرائح السكانية في المناطق الحضرية.

الحوكمة والتحول الحضري
أما الفصل الخامس فيتناول، أهمية الحوكمة في إدارة التحول الحضري في المملكة، ويستعرض بالتحليل والتقييم، الاتجاهات والقضايا الناشئة المرتبطة بأنظمة الحوكمة الحضرية في المدن السعودية، مع تسليط الضوء على معوقات التنمية الحضرية المستدامة الفعالة، إذ يشير إلى أن حوكمة التنمية الحضرية يعتبر عنصراً جوهرياً في تحقيق التحضر المستدام وتنمية وإدارة مدن شاملة وآمنة ومستدامة ومرنة.
ولتحقيق التحول الحضري المنشود، وضع “برنامج مستقبل المدن السعودية”، أهدافاً تتماشى مع أهداف رؤية 2030، وبرنامج التحول الوطني، وأهداف التنمية المستدامة الأممية، بما فيها الهدف11، وهو تحقيق مدن ومجتمعات شاملة وآمنة ومرنة، بحيث يستهدف البرنامج ما يلي:
• توفير بيئة حضرية مستدامة في 17 مدينة سعودية وفقاً لمعايير ازدهار المدينة.
• الحد من ظاهرة الزحف العمراني ومعالجة أعمال التوسع الحضري بأسلوب مدروس ومناسب.
• إيجاد الحلول المؤسسية المستدامة والتنسيق بين الوزارات وشركاء التنمية الحضرية.
• رفع مستوى القدرات المؤسسية والفنية في مجال عمليات تخطيط التحضر وإدارة تنفيذها بأسلوب مستدام.
• إشراك جميع فئات السكان وخاصة النساء والشباب، في تطوير الخطط الحضرية وتنفيذها.

وكما هو واضح فإن هذه الأهداف تشمل كل القضايا التي تحدث عنها التقرير في فصوله الأربعة الأولى، التي تعنى بالتحديات الحضرية ومنها التنامي السكاني وتوزيعه المكاني، وكذلك محور الاستدامة بشقيه النقل والتنمية والاقتصاد، ولكن كما تحدثنا سابقاً أن مسؤولية إعداد المخططات الحضرية الوطنية والإقليمية والمحلية، تكون مركزية، في حين تقتصر صلاحيات واختصاصات الإدارات البلدية على تنفيذ المخططات المحلية في نطاق مسئولياته وصلاحياته وهي أنظمة البناء واستعمالات الأراضي، ما يجعلها أقل فاعلية في التجاوب مع احتياجات الحاضرة المسؤولة، سواء الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، والاستفادة من ميزاتها النسبية ما يضفي في النهاية تنوع الخارطة الحضرية والتمايز بين المناطق، ما يثري اقتصادنا وثقافتنا وحياتنا بشكل عام.
لذلك من المتطلبات المهمة لتفعيل منظومة حوكمة فاعلة، الحاجة إلى توحيد التشريعات الحضرية لدعم التدخل في المجال التنموي، إلى جانب مراجعة وتحديث وتطوير هذه التشريعات لتواكب التنمية الحالية وتحولاتها. ولكن من المهم أيضاً الإدراك بأن مجرد وجود القوانين لن يضمن التنمية العمرانية المستدامة، لأنها يجب أن تكون دقيقة وفعالة من الناحية الوظيفية لتحقيق النتائج المرجوة منها، وأيضاً واضحة، ومتسقة، وسهلة الفهم، مع توافر القدرات البشرية والتقنية لتحقيق الإدارة الفاعلة المرجوة.

لذلك هناك حاجة ماسة إلى أن نبدأ في تفعيل حوار شامل بخصوص منظومة إدارة وحوكمة التنمية الحضرية في المملكة تسعى إلى تحقيق هذه الأهداف التي وضعت من قبل وزارة معنية بالموضوع، بالشراكة مع منظمة دولية جلبت جل خبرتها لدعم اتخاذ القرار لدينا. وكما قلنا سابقاً، فان الحوار يجب أن لا يقتصر على الجهات الحكومية المعنية بل يتعداها إلى القطاع الخاص والأهلي والمجتمع المدني للوصول إلى أجندة عمل مشتركة تعزز بشكل أكبر رؤية 2030 وتعمق الشراكة ما بين مختلف الأطراف.

للإطلاع على مزيد من التفاصيل الرجاء الدخول إلى موقع برنامج مستقبل المدن السعودية تقرير حالة المدن السعودية 2019 .
______

في الحلقة الأخيرة:
تنفيذ أجندة التنمية الحضرية الجديدة في المملكة

اظهر المزيد
إغلاق