مقال

قراءة في تقرير حالة المدن السعودية 2019 (3/5) الاستدامة الحضرية

عبدالإله بن عبدالعزيز آل الشيخ
خبير سياسات التنمية والتطوير

صدر حديثاً، عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat)، بالتعاون مع وزارة الشؤون البلدية والقروية، تقرير “حالة المدن السعودية 2019م”، وهو بحق من أشمل التقارير التي اطلعت عليها في السنوات الأخيرة، والتي تشخص حال المدن والتنمية الحضرية والإقليمية والفجوة ما بين الريف والحضر في المملكة.
وسنحاول من خلال هذه القراءة المتأنية، عبر سلسلة حلقات لا تتجاوز الخمس، فهم حالة المدن السعودية عبر عقود من التنمية المتواصلة والجادة من أبناء هذا الوطن المعطاء.
نستكمل في هذه الحلقة، قراءتنا في تقرير “حالة المدن السعودية 2019″، ونخصصها لمناقشة الفصلين الثاني والثالث، من الفصول الستة، حول موضوع الاستدامة الحضرية، حيث خصص الفصل الثاني لموضوع مهم يخص المملكة، وهو النقل واستدامته، فيما خصص الفصل الثالث، لاستدامة البيئة مع التطرق إلى مفهوم المدن الخضراء.
وبما أننا في بيئة صحراوية فانه من المهم أن نطرح هدفاً طموحاً لخلق مفهوم الواحات، التي عرفت في الجزيرة العربية منذ القدم وعبر العصور، كبيئات حاضنة للاستيطان البشري تتصف بالاستدامة كواحة الإحساء، على أن مفهوم الواحات، من منظور التصميم الحضري والتخطيط ليس مفهوماً جديداً، ولكن التطور المذهل للتقنية في المئة عام الأخيرة، منح فرصاً كبيرة في إعادة هذا المفهوم ولكن بطرق جديدة.

استدامة النقل
وبالعودة إلى التقرير، وكما أشرنا، فإن الفصل الثاني يركز على الاستدامة من منظور النقل، وقد لخص بشكل تاريخي تطور هذا القطاع وحجم الاستثمار الكبير للحكومة عبر سنين من مشاريع البنية التحتية، سواء النقل البري، أو الطرق داخل المدن، أو الطيران، أو سكك الحديد، أو الموانئ، أو النقل العام بين المدن وداخل الحواضر. وقد اتبع معدو التقرير نهجاً علمياً في هذا الموضوع، حيث استندوا إلى الكثير من الأرقام والإحصاءات والمعلومات والمقارنات، وتم ربطها بالموضوع الأساسي وهو الاستدامة، سواء من ناحية التكلفة والإدارة أو من ناحية تأثيرها على البيئة.
ويخلص هذا الفصل إلى أنه، رغم أهمية بناء المزيد من الطرق، لتهيئة الظروف الملائمة لتصميم أنظمة نقل فعالة، فإن التخطيط والتصميم الحضري الجيد للمدن السعودية، ضرورة ملحة لتقليص المسافات وزيادة إمكانية الوصول إلى تعزيز حلول النقل الحضري المستدام. ومن هذه الحلول تعزيز العمل عن بعد ومشاركة السيارات، أو القيام برحلات لمسافات قصيرة، ما يذلل بعض التحديات التي يفرضها النقل الحضري حالياً.
ويقترح التقرير أن تتبنى المملكة استراتيجية مرتكزة إلى ثلاثة أبعاد لضمان تحقيق نموذج مستدام للتنقل الحضري وهي:
أولاً: تفادي التنقل الكثيف بالمركبات الخاصة، لتخفيف أثر التلوث الكربوني.
ثانياً: تبني التخطيط المدمج للمدن (Integrated City Planning)، والذي يشمل المرافق والخدمات والطرق واستعمالات الأراضي، وكذلك تبني تطبيق نظام استعمالات مختلط للأراضي (Mixed land use)، بمعنى دمج السكني مع التجاري مع المكتبي وأحياناً الترفيه، إضافة إلى ربط كل ذلك بخطة اقتصادية واجتماعية للنهوض بالمدينة، لتكون قادرة على الانتاج، بدل أن تكون مجرد مكان للإقامة والعيش.
ثالثاً: التطوير الحضري في محيط محطات ومسارات النقل العام (Transport Oriented Development TOD)، وعلى المستوى المحلي.

وتعليقي على هذه المناهج التخطيطية المقترحة، والتي لا أشك بأن غالبية العاملين في القطاع من مخططين ومصممين وجغرافيين، يعرفونها ويؤمنون بها. ولكن من يعلق الجرس؟ ما الذي منعهم من المبادرة واقتراح تطبيقها بعد كل هذه السنين من الممارسة لمناهج أكل عليها الزمن؟ وهذ ليس لإلقاء اللوم عليهم كأفراد بعينهم، ولكن من أجل الحض على أن تتضافر الجهود لتطبيق هذه المنهاج، ورفع الوعي لدى صانع القرار بالبرهان والمقارنة، حيث أنه ليس كل مسؤول مخطط أو مهني في هذا المجال، فلذلك تقع المسؤولية على المختصين العاملين، وفي نفس الوقت من الواجب تمكين المؤسسات المحلية من أمانات وبلديات، خصوصاً ما تم اقتراحه بخصوص التخطيط المدمج للمدينة، والتي تتطلب تضافر الجهود بين جميع المؤسسات في المدينة، سواء البلديات أو إدارات النقل أو شركات الخدمات والنقل.

الحلول والمقترحات
ويستطرد التقرير في توصيف الحلول والمقترحات التي يمكن الاطلاع عليها من المختصين والمسؤولين، والتي أعتقد أنها لا تخفى على أحد منهم، ما يبقي قدرتنا على ترجمة الكثير من هذه المناهج على أرض الواقع ورفع مستوى العمل سواء من قبل المؤسسات الحكومية، أو من قبل المستشارين الذين يقدمون الخدمات الاستشارية والتصميمية والدراسات، والذين من الواجب رفع مستواهم وتأهيلهم من قبل برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat)، بالتعاون مع وزارة الشؤون البلدية والقروية، ومنع أنصاف المكاتب من تقديم الاستشارات التي لا ترقى إلى المعايير الدولية. وهنا تأتي أهمية تأهيل الكوادر والقدرات داخل المؤسسات للتفريق بين الغث والسمين، وإعطاء الفرصة لشبابنا المبدعين لممارسة المهنة والارتقاء بها، ومن ثم التنفيذ على الأرض مع المقاولين وموردي المواد الخ…

تحقيق التوازن
أما الفصل الثالث والمعني بالاستدامة بمفهومه الشامل، فيبدأ بوضع تعريف للمفهوم الذي يستهدفه حيث يقول: “تهدف التنمية المستدامة إلى الحد من التأثيرات السلبية مع تحسين البيئة لضمان نوعية حياة أفضل للأجيال الحالية والمستقبلية”. إذاً هو عملية تحقيق التوازن ما بين تقليل التأثيرات والتحسين مع النظر إلى جودة حياة الإنسان الآن وفي المستقبل، وهذا مفهوم مهم للعمل به وليس لمجرد ترداده في الوثائق والمؤتمرات، بل من المهم جعله عنصراً أساسياً في تصميم السياسات العامة والقدرة على قياسها ومتابعتها سواء على مستوى النتائج الموصوفة (Outcomes) أو مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) ، والتي نسمع الكثير عنها وتستخدم أحياناً بشكل أفقدها قيمتها، علماً أن الأهم هو السياسة المعتمدة والنتائج المرجوة. أما المؤشر فهو مجرد أداة قياس، يوضح للمتابع والمسؤول أين هو من الهدف.
في الفترة الماضية كتب الكثيرون في هذا الموضوع، ومنهم من أبدى بعض الاستياء من كثرة التركيز على هذه المؤشرات وسلوك من يتشدق بها، دون النظر ومناقشة السياسة نفسها، وأنا أتفق مع ذلك، ولكن يجب ألا نحملها أكثر من ما تحتمل، فهي في النهاية أداة مهمة يجب ألا يجعل استياؤنا من سوء استخدمها وسيلة للتقليل من شأنها، حيث كنا في السابق ننادي بوجود وسيلة لقياس الأداء ومدى تحقيق الأهداف.
لذلك، فان من المؤشرات المهمة التي ركز عليه هذا الفصل، جودة الهواء وارتباطها بالأمراض الناتجة عن ترديها في بعض الأماكن والنواحي، لذلك يورد الحقيقة التالية: “أنه مع تحسن نوعية الهواء، تتقلص التكاليف الصحية الناجمة عن الأمراض المرتبطة بتلوث الهواء، وتتوسع إنتاجية العمال وتزيد من متوسط العمر المتوقع”. ما يعني أنه بدون وجود المؤشر المناسب لقياس هذه العلاقة الطردية، نكون قد فقدنا القدرة على متابعة ثلاثة محاور هي: جودة الهواء نفسها، وأثرها على صحة الإنسان التي تنعكس على تكاليف الرعاية الصحية، ومن ثم قدرتنا على قياس الإنتاجية وفي النهاية تحقيق ما يسمى الحياة المديدة الصحية (Longevity)، وهي إحدى مؤشرات التنمية البشرية الثلاثة الرئيسية، والمتمثلة في حصة الفرد من الدخل الإجمالي القومي بالقوة الشرائية الحالية (GNI ppp)، والمعرفة التي تقاس بمعدل سنين التعلم، ومستوى الحياة المديدة أو معدل حياة الفرد.
ويخلص هذا الفصل، إلى أن التنمية المستدامة تزدهر حيث يتم تطبيق نماذج الإدارة الجيدة للأصول، فالتنمية الاقتصادية هي من يدعم التنمية الاجتماعية، أو تعزز رفاه الإنسان، دون المساس بالإطار البيئي والثقافي الأساسي الذي تحدث فيه، وفي ذلك ضمان للمساواة بين الأجيال.

مرونة حضرية شاملة
ويسرد التقرير بعد ذلك، مجموعة من الأمثلة بالأرقام حول هذه الفرضية وحول أن في العقود المقبلة، ما سيشكل بناء مرونة حضرية شاملة للتخفيف من حدة آثار التغيرات المناخية والتكيف معها، بعداً أساسياً في سياسة التنمية الحضرية المستدامة واستثماراً ذكياً للمدن.
كما يستعرض هذا الفصل، من خلال مجموعة متنوعة من الأمثلة العملية، سياسات وتدابير التصدي لتأثيرات التغيرات المناخية والتي تتضمن التخفيف من حدتها، والتنمية التي تعتمد على طاقة الحفظ من الانبعاثات الكربونية والتكيف، التي تغطي جميع القطاعات. ويوصي التقرير بإنتهاج أسلوب أكثر شمولية لاجتثاث مسببات التغير المناخي وتحسين إدارات المدن، للتعاون بشكل أفضل وتسخّير طاقات وقدرات وإمكانات جميع أصحاب المصلحة، من الشركات ومؤسسات المجتمع المدني والسكان.
ومن وجهة نظري فإن التقرير في هذا الفصل، أغفل واقع إدارة المدن في المملكة، والتي يمكن وصفها بالتشتت بين عدد من المؤسسات الحكومية سواء مركزية أو إقليمية أو على المستوى المحلي.

توصيات
ولتحقيق التنمية المستدامة، يوصي هذا الفصل بما يلي:
• التصدي للتحديات البيئية المعقدة والمترابطة، من خلال المزيد من التعاون بين مختلف القطاعات، ومشاركة أصحاب المصلحة المتعددين، والأبحاث متعددة التخصصات.
• الاعتراف بقدرات وطاقات وإبداعات مختلف أصحاب المصلحة في الإدارة الحضرية، بما في ذلك الأعمال التجارية والمجتمع المدني والمواطنين.
• التأكيد على الحاجة إلى تجديد فكر ومنهجيات التخطيط الحضري وإدماج استراتيجيات النمو الأخرى في أدوات التخطيط الأساسية.
• استخدام التخطيط التشاركي والشمولي لتعميم الحق في التمتع بازدهار ورفاه المدن وتطوير برامج بيئية فعالة.
• التأكيد على الروابط التكاملية بين الأجندات البيئية المحلية والعالمية وتغير المناخ باعتبار ذلك قضية حضرية شاملة.

يبقى أن هذين الفصلين هما من أكثر الفصول عمقاً وكثافة معلومات ومحاور، لأهمية الاستدامة في عصرنا الحاضر، ولكن ما نفتقده هو تبني النهج عملياً وثقافياً، لذلك نأمل في أن تتم مأسسة هذه المبادئ وإخراجها من النصوص إلى العمل بمعايير علمية صحيحة وبدون اجتهادات شخصية.
للإطلاع على مزيد من التفاصيل الرجاء الدخول إلى موقع برنامج مستقبل المدن السعودية تقرير حالة المدن السعودية 2019 .

في الحلقة المقبلة:
الديناميكية الاقتصادية والحوكمة للحواضر

اظهر المزيد
إغلاق