تحقيق

المنشآت الصغيرة والمتوسطة .. الخيار الأمثل لتوظيف الشباب

تحقيق – نزار عبدالباقي:

لا يكاد يخلو مؤتمر أو ملتقى اقتصادي من الحديث عن أهمية دعم قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وضرورة تقديم العون لها وتشجيعها، لما تمثله من قيمة إضافية بالغة الأهمية، يمكن أن تسهم في تحقيق جملة من المكاسب للاقتصاد والمجتمع على حد سواء، فهذه المؤسسات التي باتت هدفا رئيسيا تحرص معظم الدول النامية على دعمه وتشجيعه، يمكن أن تسهم في رفد الاقتصاد الوطني عبر تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع والخدمات، إضافة إلى إيجاد أعداد مهولة من فرص التوظيف للشباب، مما يقضي على مشكلة البطالة، أو يقلل منها بنسبة كبيرة.

المؤسسات والمنشآت الصغيرة والمتوسطة لها جانب آخر بالغ الأهمية يتمثل في تنويع الإنتاج وتقليل الاستيراد، وبالتالي توفير مبالغ مالية كبيرة كانت تُهدر على استيراد منتجات يمكن صناعتها وتوفيرها محليا، وبجودة أعلى ومدخلات إنتاج من واقع البيئة المعاشة.
وقد كثر الحديث خلال الفترة الأخيرة عن أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المنشآت في دعم الاقتصاد الوطني، وأولت حكومة خادم الحرمين الشريفين-حفظه الله- عناية فائقة لهذا القطاع، حيث عقدت العديد من الفعاليات والمؤتمرات والمنتديات، لتأكيد ضرورة الاهتمام بتلك المنشآت، والاستفادة من التجارب الناجحة التي تحققت في الدول الأخرى، وما أسهمت به في التوظيف والناتج المحلي، كما أن هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة «منشآت» تقدم حزمة من التسهيلات والدعم  لتمكين رواد المشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، إضافة لمساعدتهم في توفير التمويل اللازم  لمشاريعهم.
مجتمع شبابي
رغم أن المجتمع السعودي يمتاز بغلبة عنصر الشباب فيه، حيث تشير إحصاءات التعداد السكاني الأخير إلى أن ما يقرب من 75% من عدد السعوديين هم من فئة الشباب الذين يتراوح معدل أعمارهم ما بين 18 إلى 35 سنة، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى زيادة إسهام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالشكل المطلوب، حيث يشكل نسبة ضئيلة من نسبة الناتج المحلي الإجمالي، ويعود ذلك إلى أسباب متعددة في مقدمتها الدور الضعيف للعديد من البنوك ومؤسسات التمويل في تقديم الدعم لهذه الفئة، وندرة دراسات الجدوى المتخصصة التي يمكن للشباب الاسترشاد بها لمعرفة الاحتياجات الفعلية للسوق. وإذا وضعنا في الاعتبار أن الاقتصاد السعودي هو أحد الاقتصادات الناشئة بقوة في العالم، ويحتل مرتبة متميزة، وأن المملكة تمتاز باتساع حجم سوقها، وتنوع مجالات الاستثمار، وارتفاع القدرة الشرائية لمواطنيها، فإن المفارقة تبدو أكبر من قلة هذا النوع من المؤسسات التي يمكن أن تغني الشباب السعودي وتدفعه لاقتحام مجال العمل التجاري، بدلا من الانتظار لسنوات طويلة للحصول على وظيفة.
تسهيلات ضخمة
نظرة بسيطة إلى الواقع الاقتصادي لكثير من الدول المتطورة توضح بجلاء أن قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة فيها يحتل مكانة مرموقة، وله إسهام كبير في الدخل القومي. فالاقتصاد الياباني على سبيل المثال يعتمد على تلك المؤسسات بنسبة تتجاوز 75%، ونفس الحال ينطبق على كثير من الدول الأوروبية والآسيوية. ويعود السبب في ذلك إلى التسهيلات الكبيرة التي تقدم للشباب الذي يرغب في الدخول لعالم الأعمال. ومما يلفت النظر أن كثيرا من المؤسسات الصناعية في تلك الدول هي من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، حيث تتجنب كثيرا من أوجه الصرف غير الضرورية، وتركز على الجوانب العملية، وتعتمد على الوسائل التقنية والتكنولوجية للقيام بالكثير من المهام. كما تقدم تلك الدول إغراءات كثيرة لأصحاب تلك المشاريع، فبالإضافة إلى توفير التمويل المطلوب يتم إعفاؤها من الضرائب لسنوات محددة، وتقدم لها الاستشارات التجارية والفنية المطلوبة، وتُعطى منتجاتها ميزات تفضيلية تساعدها على المنافسة في السوق.
جمود وركود
في المقابل، فإن نظرة سريعة لواقعنا المحلي تعكس التراجع الكبير الذي تشكو منه تلك المؤسسات، ورغم الجهود التي تبذلها الحكومة لتشجيع الشباب على بدء مشاريعهم الخاصة، إلا أن تلك الجهود لم ترافقها – للأسف – جهود مماثلة من القطاع الخاص، لاسيما قطاع المصارف ومؤسسات التمويل فيلاحظ أن البنوك تضع اشتراطات صارمة لتوفير التمويل، وتطلب ضمانات ربما لا يستطيع الشباب توفيرها. كما أن ثقافة العمل الحر لم تكن في السابق منتشرة في المجتمع لأسباب متعددة، وكان قطاع كبير من الشباب ينظرون إلى بعض الأعمال على أنها دون مستواهم الاجتماعي ويتحرجون من العمل فيها. إلا أن هذه النظرة تغيرت في الوقت الحالي بسبب الانفتاح الكبير على العالم الخارجي، إضافة إلى ما تحققه تلك الأعمال من دخل مرتفع، مما دفع الشباب إلى تغيير نظرتهم القديمة والدخول في تلك الأعمال.
عقبة التمويل
تشير إحصاءات وزارة التجارة إلى وجود ما يزيد على مليون سجل تجاري في المملكة، أكثر من 90% منها تعود إلى منشآت صغيرة ومتوسطة تعمل بشكل فردي وعائلي، وهذا العدد الكبير يفترض توفر وتنوع الوسائل الداعمة لهذه المنشآت، لأنها تعتبر المدخل الحقيقي للتنمية. ولتحقيق هذا الهدف يشدد كثير من الاقتصاديين على ضرورة أن تعامل هذه المشاريع بصورة خاصة، باعتبارها ليست مجرد مشاريع تجارية ربحية، بل هي أداة لإيجاد فرص وظيفية تساعد مئات الآلاف من الشباب على إيجاد مصادر دخل لهم. وأن يتم إيجاد حلول لمشكلة التمويل التي تحول دون تطورها، في ظل عدم قدرة أصحابها على توفير التمويل اللازم، أو استيفاء الضمانات التي تشترطها البنوك التجارية التي تسارع عادة إلى تمويل المشاريع الكبيرة، وتفضل التعامل معها وتقديم القروض لها، بسبب انخفاض درجة المخاطرة لديها، وقدرتها على توفير الضمانات المطلوبة.
تسديد ومقاربة
مع الأخذ بعين الاعتبار المخاوف التي تبديها البنوك التجارية، وطبيعة عملها التي تفرض عليها المحافظة على حقوق المودعين وأصحاب الأموال، إلا أن هناك مصلحة عامة تتطلب التعامل بصورة خاصة مع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لذلك فإن هناك جهودا ينبغي أن تبذل من كافة الجهات ذات الصلة، لوضع حلول جذرية لمشكلة التمويل، وفي ذات الوقت تحافظ على مصالح البنوك التجارية. ويمكن في هذا الصدد الاسترشاد بتجارب الدول الأخرى الرائدة في دعم الشباب، مثل اليابان والصين وكوريا وسنغافورة وماليزيا والهند، إضافة إلى فرنسا وبريطانيا اللتين دخلتا بقوة، مؤخرا وطبقتا حزمة من الحوافز رفعت من نوعية وعددية المشاريع الصغيرة والمتوسطة. حيث قطعت تلك الدول شوطا كبيرا في دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي باتت تساهم بالجزء الأكبر من إجمالي ناتجها القومي الإجمالي، واستطاعت القضاء بنسبة كبيرة على مشكلة البطالة، وحل المشكلات التي يواجهها الشباب بسبب عدم الحصول على وظائف مناسبة تعينهم على بدء حياتهم العملية,
 مفاهيم سالبة
كانت المجتمعات العربية عامة تعاني من نظرة سالبة تجاه العمل الحرفي والمهني، حيث يُنظر إلى تلك الأعمال نظرة دونية، ويتعامل معها كثيرون على أنها تقلل من مكانة الإنسان الاجتماعية. وتؤكد الإحصاءات الرسمية أن الوافدين الذين يعملون في مجال ميكانيكا السيارات وبيع قطع الغيار وغيرها من الأعمال الحرفية يحصلون على دخل مرتفع للغاية لا يحصل عليه الموظفون. لذلك فقد تغيرت نظرة قطاع كبير من الشباب السعودي لتلك الأعمال، لاسيما بعد إعلان خطة التحول الوطني 2020، ورؤية المملكة 2030 التي ركزت أساسا على تنويع مصادر الدخل، وتقليل نسبة البطالة وسط الشباب، ورفع درجة تأهيلهم وتدريبهم، ووقف المبالغ المالية الكبيرة التي كانت تهدر على استيراد منتجات يمكن صناعتها وتوفيرها محليا، وبدرجة جودة أعلى. لذلك تسعى الدولة جاهدة لتوفير أفضل الفرص للشباب لبدء مشاريعهم الخاصة.
نقص المعلومة
من الصعوبات الأخرى التي تعترض الشباب السعودي عند الرغبة في إقامة مشاريع صغيرة خاصة بهم صعوبة الحصول على المعلومة الصحيحة، وعدم القدرة على استشراف السوق المحلي ومعرفة احتياجاته الفعلية، وعدم التمييز بين المشاريع التي تكون درجة المخاطرة فيها أقل من غيرها. ولأن معظم أولئك الشباب يعتمدون على البنوك في تمويل مشاريعهم، فإن هاجس المخاطرة والخوف من الخسارة يظل مسيطرا عليهم. لذلك يسعون إلى الدخول في مشاريع تضمن لهم تحقيق الأرباح بصورة سريعة. ولأجل مساعدة الشباب على التعرف على الاحتياجات الفعلية تبذل الغرف التجارية جهودا كبيرة لتوفير دراسات الجدوى الاقتصادية التي يعدها مختصون، وتقدم الغرف تلك الدراسات مجانا أو برسوم رمزية. كذلك تبذل الغرف عبر إدارات ريادة الأعمال جهودا مماثلة لتوفير التدريب اللازم للشباب لإكسابهم المهارات الإدارية والمالية التي تعينهم على إدارة مشاريعهم، وتعريفهم بالصور المثلى للتسويق الذي يضمن لهم بيع منتجاتهم.

مساهمة مجتمعية
لن يتأتى لقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في المملكة أن يتطور ما لم يتم القضاء بصورة نهائية على مشكلة التستر التجاري، لأنها السبب الرئيسي في خروج الأموال الطائلة من البلاد، التي تحولها العمالة الوافدة المخالفة إلى بلدانها. ورغم أن الدولة سنَّت الكثير من التشريعات والقوانين لمحاصرة المتسترين، إلا أن هناك دور كبير على كافة فئات المجتمع القيام به، عبر الإبلاغ عن المؤسسات التي تمارس التستر. كذلك ينبغي مضاعفة العقوبة وتغليظها بحق كل من يسهل جريمة التستر، وشطب سجلاتهم التجارية، وحرمانهم من الحصول على سجلات أخرى، ووضعهم في قائمة سوداء، حتى يتم القضاء على هذه الظاهرة واجتثاثها تماما، وعلى وسائل الإعلام التنبيه بصورة مستمرة إلى خطر تلك المؤسسات التي لا يعمل فيها سعوديون. ويتآمر العاملون فيها ضد الشباب السعودي الذي يحاول منافستهم، خشية افتضاح أمرهم. ابتكار الحلول
لكل ما سبق، تبقى هناك حاجة ماسة إلى حلول عملية ومبتكرة وخطوات غير تقليدية، لمساعدة الشباب السعودي على الانخراط في سوق العمل، والاهتمام أكثر بأن تكون تلك المساعدة في النواحي الفنية التي يحتاجها الشباب لضمان استمرارهم، مثل حصر المشكلات التي تواجه تكوين تلك المنشآت سواء كانت في قطاعات الإنتاج أو التسويق أو المجال القانوني، وإعداد الدراسات التي تساهم في تذليلها، وتوفير دراسات الجدوى المطلوبة التي تعينهم على استشراف السوق المحلي ومعرفة احتياجاته الفعلية، وتحديد المجالات التي يمكن أن يحققوا فيها عائدا سريعا يعينهم على تسديد ديونهم، وتنظيم برامج التدريب لأصحاب المنشآت لرفع قدراتهم، واطلاعهم على أساليب الإدارة الحديثة، والاستفادة من تقنية المعلومات والاتصالات، وتوفير البرامج الرقمية المطلوبة، مثل الأنظمة المحاسبية والرقابية وإدارة المخازن والمبيعات، وتقديم الاستشارات المالية والإدارية.
هيئات ريادة الأعمال
هناك شركات وهيئات حكومية تبذل جهودا مقدرة في توفير التقنيات وبرامج التأهيل اللازمة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة الناشئة، أبرزها شركة حاضنات ومسرعات الأعمال «بياك» التابعة لصندوق الاستثمارات العامة والتي تعمل على إنشاء وتشغيل وصيانة وإدارة حاضنات ومسرعات الأعمال ومنصات دعم ريادة الأعمال وبرامج الابتكار، إضافة لنقل التقنية وتقديم خدمات إدارة المشاريع والاستشارات المتخصصة وخدمات التدريب ورفع قدرات الموارد البشرية، فيما يدعم برنامج «بادر» لحاضنات ومسرعات التقنية الذي أسس في عام 2007م مِن قِبل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية المشروعات الريادية والناشئة، المبنية على التقنية، بهدف تطوير ريادة الأعمال في المجال التقني.
كما تعمل هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة «منشآت» على دعم وتنمية ورعاية قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، عبر تنفيذ برامج متخصصة لتأهيل وتدريب رواد الأعمال وبالتالي نشر ثقافة وفكر العمل الحر وروح ريادة الأعمال والمبادرة والابتكار، وذلك بهدف تنويع مصادر الدخل للشباب.
تفكير متقدم
هناك واجب وطني كبير يمكن للشركات الكبرى في بلادنا أداؤه. ويمكن في إطار المسؤولية الاجتماعية التي اعتادت تلك الشركات القيام به أن تسهم في دعم الشباب السعودي لبدء مشاريعهم الخاصة، وهذا الدعم يمكن أن يتمثل في تبني عدد من الشركات الصغيرة، وتقديم عقود لها من الباطن، وشراء منتجاتها، وتقديم الدعم المادي والإداري لها. فالمرحلة الدقيقة التي تمر بها بلادنا في إطار التحديث الشامل الذي يشهده اقتصادها ومجتمعها تتطلب التفكير بطرق غير تقليدية، واللجوء إلى حلول مبتكرة تتجاوز مجرد تقديم مساعدات فردية للفقراء والمحتاجين، رغم أهمية ذلك الدور. لكن الواقع الحالي الذي يعيشه العالم ومجتمعنا منه بطبيعة الحال، يتطلب الإسهام في حل مشكلة البطالة، ومساعدة الأسر المنتجة، ودعم الشباب بشتى الصور للدخول إلى عالم العمل الحر، بدلا من الانتظار لسنوات طويلة في طوابير الحصول على وظيفة.
اظهر المزيد
إغلاق